لمصدر موقع اسلاميات
آية (7)-(:
(يُوفُونَ
بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً {7}
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً
{8}
بدأ
تعالى الآية بذكر الوفاء بالنذر لأن الوفاء بالنذر واجب ثم جاء بعده ذكر
الوفاء بالواجب فكأنه ذكر النيّة المقابلة لعموم العمل فكل عمل تقترن به
النية الخالصة لله فكأن قوله تعالى (يوفون بالنذر) هو العمل و(يخافون يوماً) هو النية ، وينبغي أن تكون النية مقابلة للعمل. وقوله تعالى (كان شرّه مستطيرا)
بمعنى فاشياً منتشراً ويقال عن يوم القيامة كان شره مستطيرا بمعنى انتشر
شرّه حتى ملأ السموات والأرض قر يبقى ملك مقرّب ولا تبي مُرسل إلا جثا على
ركبتيه. وفي اللغة استطار الشيئ أي تفشّى الشيئ وبلغ أقصى مدى.
وبعدها قال تعالى (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا). وهنا يأتي السؤال على ماذا يعود الضمير في كلمة (حبّه)؟
ذكر فيه أكثر من حالة وإن كان أظهرها على حبه يعني على حب الطعام مع
حاجتهم إليه وهذا من باب الإيثار يطعمون الطعام مع أنهم محتاجون إليه
مصداقاً لقوله تعالى (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا
تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ {92}
آل عمران)، ويحتمل أيضاً أن يعود على حب الإطعام فيعود على المصدر
(الإطعام) كقوله تعالى (اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى،
المائدة آية هو هنا تعود على العدل وهؤلاء يطعمون الطعام بطيب نفس وبدون
مَنّة ولا تكدير ، ويحتمل أيضاً أن يكون يعود الضمير على حب الله بمعنى
ابتغاء وجهه كما تذكر الآية في نفس السورة (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً {9}). فالضمير إذن يعود على الطعام من باب الإيثار وعلى الإطعام من باب الإحسان وعلى حب الله وهو من باب الإخلاص. وقد قال قسم من المفسرين أن أعلى هذه الإحتمالات أن يكون من باب الإيثار، وهو في الحقيقة يجمع المعاني كلها. ويأتي سؤال هنا لماذا ذكر الله تعالى كلمة الطعام (ويطعمون الطعام) ولم يقل (ويطعمون)؟
ذكر الطعام حتى يصحّ عودة الضمير عليه ولو حذف الطعام لما عاد الضمير عليه
وهو أعلى الأوجه كما قلنا سابقاً وهو الإيثار، فذِكر كلمة الطعام أفاد
ثلاثة معاني ولو حذف لأفاد المعنى لكن الضمير لن يعود على الطعام وهو
الإيثار (ويطعمون الطعام على حبه).
ثم ذكر ثلاثة أصناف من البشر بالترتيب التالي (مسكيناً ويتيماً وأسيرا) فتقديم المسكين على اليتيم واليتيم على الأسير يفيد جملة أمور:
1. التقديم بحسب الرتبة وحسب الحاجة:
وتقديم المسكين لأن المسكين محتاج على الدوام وهو من المذكورين في باب
الزكاة واليتيم قد لا يكون محتاجاً وقد يكون غني لكن المسكين يكون إطعامه
على الوجوب والتطزع ، أما الأسير قج يكون كافراً والكافر لا يدخل في باب
الوجوب على أفراد المسلمين إنما يدخل في باب الوجوب على الحاكم أو ولي
الأمر. وبدأ بالواجب (الوفاء بالنذر) وكذلك بدأ بمن هو أولى وهو المسكين
أولاُ ثم اليتيم ثم الأسير.
2. التقديم بحسب الكثرة:
فالمساكين هم أكثر من اليتامى لأن اليتم يزول بالبلوغ أما المسكين فيبقى
مسكيناً كذلك اليتامى أكثر من الأسرى لأن هؤلاء الأسرى لا يكونون إلا في
وقت الحرب وهم أقل من اليتامى والمساكين وهذا ملحظ آخر للتقديم وهو تقديم
الأكثر ثم الأقل.
3. وقد يكون للتقديم مسوّغ آخر وهو بحسب القدرة على التصرف.
فالمسكين له الأهلية الكاملة على التصرف أما اليتيم فأهليته ناقصة حتى
يبلغ أما الأسير فلا يمكن أن يتصرف حتى يأمر فيه صاحب الأمر.
وهناك
عدة أمور تسوّغ التقديم بهذه الصورة وعندما ذكر الأسرى كان مناسباً لما
ذكره في عذاب الكافرين (سلاسل وأغلالاً وسعيرا) لأن الأسرى يقيّدون
بالأغلال والسلاسل.
ونأتي لسؤال آخر لماذا استعمل كلمة (ويطعمون) ولم يستعمل (ويتصدقون)؟
والجواب حتى لا يخُصّ ذلك الصدقات أو يخصّ من تجب عليهم الصدقات أو تجب
لهم الصدقات وليس كل المسلمين تجب عليهم الصدقة أو تجب لهم الصدقة لكن أراد
عموم فعل الخير سواء كان الفاعل غنياً أو فقيراً وساء كان المُطعَم تجب
عليه أو لا ويشمل المتصدَق عليهم وغير المتصدَق عليهم . وكلمة تطعمون تدل
على فعل الخير العام وهذا المعنى لم تكن لتدل عليه كلمة يتصدقون.
آية (9):
(َإنمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً {9})
تتناول الآية الكريمة أمرين في إطعامهم الطعام وقد مرّ في الآية السابقة أنهم يطعمون الطعام مع حاجتهم إليه (على حبّه) وهذا أشهر الأوجه وأعلاها كما ذكرنا سابقاً، وأنهم مخلصون لله في إطعامهم في هذه الآية. وقوله تعالى (على حبّه) تدل على الإيثار وهنا في هذه الآية تدل على الإخلاص في قوله تعالى (لوجه الله) وهذا أعلى أنواع الإطعام أن يجتمع فيه الإيثار والإخلاص.
قال تعالى (إنما) ولم يقل مثلاً نحن نطعمكم فلماذا؟ إنما
تفيد القصر والحصر في اللغة يعني تخصيص الإطعام لهذا الأمر (الغاية هي
لوجه الله ولا يطعمون إلا لوجه الله) أي لا يبتغون شيئاً آخر وهذا هو أعلى
أنواع الإخلاص. ولو قال نحن نطعمكم سيؤدي هذا إلى أمرين ويفيد أنهم يطعمون
لوجه الله ولا ينفي إطعامهم لغير وجه الله بخلاف المعنى المقصود من الآية
والتي هو قصر الإطعام لوجه الله تعالى فقط وهذا يفيد أن الأعمال كلها حصراً
يجب أن تكون ابتغاء وجه الله تعالى.
ويقول
بعض أهل اللغة أن القول (نحن نطعمكم) هي حصر بالتقديم (تقديم نحن على
نطعمكم) نقول نعم ولكن هذا حصر بالفاعل وليس حصر بالقعل وهذا يُغيّر المعنى
المقصود (يعني نحن لا غيرنا نطعمكم) وهذا معنى غير مطلوب في الآية ولا يصح
لأن هناك غيرهم من يُطعم إما استخدام (إنما) في الآية فهي تفيد التخصيص الفعل (لا الفاعل) لوجه الله تعالى.
ثم قال تعالى في الآية (لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً) أي لا نريد مكافأة على الإطعام بالعمل (لأن الجزاء هو المكافأة على العمل) ولا نريد شكراً باللسان. نلاحظ قوله تعالى (إنما نطعمكم) ولم يقل بعدها (قالوا لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) أو يقولون،
لكنه لم يذكر فعل القول حتى يشمل لسان الحال فهم لم يقولوا ذلك بلسانهم
ولكن قالوه بلسان حالهم وقد يكون أبلغ. ومن المفسرين من يقول أنهم لم
ينطقوا بهذا القول ليشمل لسان الحال ولسان النطق. وهذا من باب الإخلاص
أيضاً أنهم قالوه بلسان حالهم.
ثم أن الآية بقوله تعالى (لا نريد منكم) ولم يستخدم مثلاً (لا نريد جزاء ولا شكورا)
وهذا لتدلّ على أنهم يريدون الجزاء والشكر من رب العالمين فهم لم ينفوا
إرادة الجزاء والشكر وإنما أرادوه من رب العالمين فقط لا من الناس الذين
يطعمونهم، ولا يصح أصلاً أن نقول لا نريد جزاء ولا شكورا بشكل مطلق.
ثم نلاحظ أنه قدّم الجزاء على الشكر
وهذا لأن الجزاء بالفعل أهم من الشكر باللسان فالناس فس الدنيا يهمهم
الجزاء وليس الشكر باللسان فقط فالمطلوب الأول في العمل هو الجزاء لذا بدأ
به سبحانه أما الشكر فهو ثناء باللسان ولا يُعدّ جزاء العمل.
وكذلك نلاحظ تكرار (لا) في قوله (لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) ولم يقل (لا نريد منكم جزاء وشكورا) وهذا دليل على أنهم لا يريدون أي واحد من الجزاء أو الشكر على وجه الإجتماع أو على وجه الإفتراق حتى لا يُفهم أنهم قد يريدون أحدهم.
ثم نلاحظ أيضاً أنه قال لا نريد ولم يقل لا نطلب لأن الإنسان قد يريد ولا يطلب فنفي الإرادة أبلغ وأعمّ من نفي الطلب فهو إذن ينفي الطلب وزيادة (الإرادة).
ثم نلاحظ استعمال كلمة (شكورا) وليس (شكرا)
الشكور تحتمل الجمع والإفراد في اللغة وهي تعني تعدد الشكر والشكر في
اللغة يُجمع على الشكور ويحتمل أن يكون مفرداً مثل القعود والجلوس، وقد
استعمل القرآن كلمتي الفسق والفسوق لكن لكل منها دلالته فجاءت كلمة الفسق مع الأطعمة والذبائح أما كلمة الفسوق فجاءت عامة لتدل على الخروج عن الطاعة.
والجمع يدل على الكثرة أي لا نريد الشكر وإن تعدد وتكرر الإطعام باعتبار
الجمع. وقد استعمل القرآن الكريم كلمة الشكور في الحالتين وإذا اردنا
الشكور مصدراً فهو أبلغ من الشكر واستعمال المصادر في القرآن عجيب والذي
يُقوي هذه الوجهة استعمال الشكور لما هو أكثر من الشكر. ولقد استعملت كلمة
الشكور في القرآن مرتين في هذه الآية وفي آية سورة الفرقان (وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ
أَوْ أَرَادَ شُكُوراً {62}) فقط واستعمل الشكر مرة واحدة في قصة آل
داوود (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ
وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ
شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ {13}سبأ) ومن ملاحظة
الآيات التي وردت فيها كلمتي الشكور والشكر نرى أن استعمال الشكر جاء في
الآية التي خاطب بها تعالى آل داوود وهو قلّة بالنسبة لعموم المؤمنين
المخاطبين في سورة الفرقان أو في هذه السورة التي فيها الإطعام مستمر إلى
يوم القيامة والشكر أيضاً سيمتد إلى يوم القيامة ما دام هناك مطعِمين
ومطعَمين. إذن هو متعلقات الشكر في هاتين الآيتين أكثر من متعلقات الشكر في
قصة آل داوود. وفي سورة الفرقان قال تعالى (لمن أراد أن يذّكّر أو أراد
شكورا) وكلمة (يذّكّر) فيها تضعيفين فالذي يبالغ في التذكر هو مبالغ في
الشكر فيبدو والله أعلم أن استعمال الشكور أبلغ من استعمال الشكر في آية
سورة الإنسان.
آية (10):
(إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً {10})
هذه
جملة مستأنفة تفيد التعليل. وهي تعطي السبب لماذا يطعمون الطعام ولا
يريدون الجزاء ولا الشكور لأنهم يخافون من ربهم يوماً عبوساً قمطريرا. وقد
وصف اليوم بالعبوس على المجاز لآن اليوم لا يوصف بالعبوس مثل العرب تصف
الليل بالقاتم (مجاز عقلي) ومحتمل لإرادة الشمول والعموم فهو عبوس هو وأهله
ومن فيه وما فيه هو وأهله لليوم ومن فيه. وعبوس صيغة مبالغة وقمطرير أي
شديد العبوس وهي صيغة مبالغة تدلّ على الشّدة.
قال (إنا نخاف من ربنا) ومن قبل قال (لوجه الله)
ولا فرق بين استعمال لفظي الرب والله (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ
إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا
بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ
اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ {64}) فالله هو الرب سبحانه.
وإذا
استعرضنا الآيات السابقة نجد أنه تعالى قد ذكر عبادتين ظاهرتين هما الوفاء
بالنذر والإطعام، وعبادتين قلبيتين هما الخوف من اليوم الآخر والإخلاص
لوجه الله، ونفى عنهم شيئين هما الجزاء والشكور، وذكر صنفين ممن يطعَمون
هما صنف مسالم (اليتيم والمسكين) وصنف محارب (الأسير)، وذكر صنفين من
المسالمين هما المسكين واليتيم، وأحدهما بالغ والآخر قاصر.
آية (11):
(فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً {11} )
لما
ذكر أنهم يخافون ذلك اليوم قال ربنا وقاهم شر ذلك اليوم ولقاهم بدل العبوس
النضرة وكلاهما في الوجه وبدل الخوف والسرور ومحلهما القلب، قابل العبوس
بالنضرة وهما في الوجه وقابل الخوف بالسرور وهما في القلب. مقابل الخوف الأمن ولكنه قابل بين الخوف والسرور والعبوس والنضرة.
السرور هو الأمن وزيادة وقد يكون الإنسان في أمن لكنه بلا سرور ثم نلاحظ
أنه أيضاً مقابل الخوف قال السرور وليس الأمن ومقابل العبوس قال النضرة ولا
تقابل العبوس لأن الوجه قد يكون غير عابس لكنه غير نضر. وهذا زيادة لأنه
تعالى قال (من جاء بالحسنة فله خير منها) ولم يقابلها بمثلها بل بخير منها.
فالسرور مقابل الحزن وليس مقابل الخوف، فالخوف عادة يكون قبل أن يقع الشيء
فإذا وقع حزن الإنسان كما في قوله تعالى (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
فأصبح في حزن لذا ذكر العاقبة السرور. وقال أيضاً في الآية السابقة (يخافون يوماً) وقال في هذه الآية (فوقاهم الله شر ذلك اليوم) ولم يقل يخافون شر اليوم وإنما جاءت الآية (يخافون يوماً) أما
في هذه الآية فذكر تعالى (فوقاهم الله شر ذلك اليوم) وهذا يعني أنهم هم
خافوا اليوم بما فيه من شرور ومصاعب وحساب وهو يوم عسير ومن شورو ذلك اليوم
أنه (يجعل الولدان شيبا) لكنه تعالى وقاهم شر ذلك اليوم فقط ولم يقيهم
اليوم ومشهد ذلك اليوم وفي هذا إنذار وتخويف كبيران فكل أنسان سيشاهد ذلك
اليوم بما فيه وحسبه أن يقيه الله تعالى شر ذلك اليوم. إذن الله تعالى
يقيهم شر اليوم ولا يقيهم مشد ذلك اليوم الذي سيشهده كل الناس أجمعين.
والفاء في قوله (فوقاهم) تفيد السببية في أغلب معانيها ولو كانت عاطفة أو يُنصب بعدها الفعل وهي تعني بسبب ما فعلوه في الدنيا وقاهم الله شر ذلك اليوم.
آية (12):
(وجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً {12})
في الآية السابقة قال تعالى (ولقّاهم) وفي هذه الآية قال (وجزاهم)
لأن اللقاء يكون قبل الجزاء أي قبل أن يدخلوا الجنة وبعد اللقاء أدخلهم
الجنة فصار الجزاء. (اللقاء أولاً ثم يأتي الجزاء بعده) جزاهم الله تعالى
بعد اللقاء جنة وحريرا وقال تعالى (بما صبروا)
و(ما) هنا تحتمل معنيين : إما أن تكون ما مصدرية بمعنى جزاهم بصبرهم
وتحتمل أن تكون إسم موصول والعائد كحذوف بمعنى جزاهم بالذي صبروا عليه، من
الطاعات والإيثار، وحذف العائد ليشمل المعنيين ولو ذكر العائد لتخصص بمعنى
واحد وهذا من باب التوسع في المعنى، إذن جزاهم للصبر ولما صبروا عليه. وجمع
أمرين وهما الجنة والحرير والجنّة كما في اللغة هي البستان وفي الآخرة هي
إسم لدار السعادة وفيها جنتان كما قلنا في لقاء سابق عن قوله تعالى في سورة
الرحمن (ولمن خاف مقام ربه جنتان) (راجع لمسات بيانية في آي القرآن
الكريم) وقلنا أنه قد يكون للمتقي أكثؤ من جنّة ولهذا يجمع القرآن جنة على
جنات كما ورد في الآيات (جنات عدن) و(جنات الفردوس) وهذه الجنات كلها في
الجنة. وجزاهم جنة والجنة للأكل وجزاهم الحرير وهو للبس وهم أطعموا الطعام
فقط لوجه الله فجزاهم الله تعالى أكثر مما فعلوا مصداقاً لقوله تعالى (من
جاء بالحسنة فله خير منها) وفي هذه الآية زاد الحرير على الجنة وهذا يدل
على كرم الله تعالى.
آية (13):
(مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً {13})
قد يسأل البعض عن تكرار فيها في الآية (متكئين فيها) ثم (لا يرون فيها) ألا يكفي أن تُذكر مرة واحدة؟ فنقول
لو حذف (لا) الثانية ولو قال مثل ما ذهب الظنّ إليه باستخدام (لا) مرة
واحدة لوقع لبس ولكا أوهم أنه فقط عند الإتكاء لا يرون شمساً ولا زمهريرا
وأنهم لو غادروا المكان لرأوا الشمس والزمهرير ولكن هذا المعنى غير مطلوب
لأن المقصود بالآية أنه سواء عند الإتكاء أو عندما يغادروا المكان لا يرون
شمساً لولا زمهريرا في كلتا الحالتين. فالتكرار إذن أفاد معنى آخر ولذا
اقتضى تكرار (فيها).
والشمس هي دليل النور والزمهرير في اللغة هو البرد الشديد وقد قيل في لغة
العرب أيضاً أنه هو القمر فإذا أخذنا في الإعتبار المعنى الأول للزمهرير
تكون الآية بمعنى لا يرون فيها لا شمس ولا قمر وإذا أخذنا المعنى الآخر
للزمهرير وهو البرد الشديد تكون الآية بمعنى لا يرون فيها دفءً ولا برداً
والدفء يأتي من الشمس والزمهرير من البرد فنفى البرد والحرّ ونفى القمر في
آن واحد، ولهذا اختار كلمة الزمهرير لأنها تجمع بين هذين المعنيين. ولو استعمل القمر بدل الزمهرير لأفاد معنى واحداً فقط.
آية (14):
(وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً {14})
جمع
تعالى لهم بين دنو الظلال وتذليل القطوف التي تفيد الدنو أيضاً وهذه
القطوف لا يردها بُعد ولا شد وبهذا جمع إضافة إلى الدنو أنها ميسّرة وليس
هناك ما يمنع من رد اليد عنها. فلماذا قال دانية باستخدام الصيغة الإسمية وذللت بالصيغة الفعلية؟
الظلال ثابتة مستقرة فجاء بالصيغة الإسمية التي تدلّ على الثبوت أما
القطوف فهي متجددة سواء كانت في جنّة أهرى أو في نفس الجنة وهي تتجدد كلما
أكلوا منها أو قطفوا منها ولذا جاء بالصيغة الفعلية التي تدلّ على التجدد.
وقد قيل فيها معنى آخر فقد جاء في الآية (وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا)
قسم من المفسرين ذهب إلى أن المعنى وجنّة دانية عليهم ظلالها بمعنى لهم
جنتان كما قلنا سابقاً (ولمن خاف مقام ربه جنتان) الأولى فيها جنة وحرير
والثانية دانية عليهم ظلالها.
آية (15)-(16):
(وَيُطَافُ
عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا {15}
قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً {16})
بعدما
ذكر الفاكهة ذكر الشراب بعدها وأنه يُطاف عليهم بها وذِكر المشروب بعد
الطعام هو الجاري عليه في القرآن كله فحيث اجتمع الطعام والشراب في الدنيا
أو الآخرة قدّم الطعام على الشراب (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) (وهو الذي
يطعمني ويسقين) وغيرها. وذكر الطعام قبل الشراب لأن الطعام أهمّ.
ثم قال تعالى (قوارير من فضة) والمعلوم أن القوارير تكون من زجاج فكيف جمع بين القوارير التي هي من زجاج وبين الفضة؟ ونقول أن الفضة هي فضة في صفاء القوارير وشفافيتها وهذه هي فضة الجنّة العجيبة. وقوله تعالى (قدّروها تقديرا) فيها
معنيين الأول على مقدار حاجتهم لا أكثر ولا أقلّ والثاني على ما تشتهيه
أنفسهم كيف تكون هيئة القوارير وشكلها أي قدّروها على ما يرغبه الشخص من
هيئة وشكل. يأتون بما هو أحبّ لنفسهم والشراب نفسه مقدّر في شكل الإناء
وترتيبه وفيما يُقدّم فيه.
وذكر في الآية فضة وأكواب من فضة وفي آية سورة الزخرف قال تعالى (يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {71}) باستعمال ذهب وليس فضة فلماذا الإختلاف بين الإستعمال للفضة في آية سورة الإنسان والذهب في آية سورة الزخرف؟
إذا
استعرضنا الآيات في سورة الزخرف (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ
وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ {70} يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ
وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ
وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {71} وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي
أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {72} لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ
كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ {73}) لو لاحظنا الآيات في سورة الإنسان والزخرف نلاحظ أنه:
1. في سورة الزخرف ذكر أنهم المتقون (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ {67}) ثم أضافهم إلى نفسه تعالى وهذا أشرف فخاطبهم (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ {68}) ثم طمأنهم من الخوف مخاطباً إياهم مباشرة (لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ)
وهذه مرتبة أعلى مما جاء في آيات في سورة الإنسان حيث جاء فيها
(فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً
وَسُرُوراً {11})
2. وجاء في الزخرف أنهم جمعوا بين الإيمان والإسلام (الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ
{69}) والإيمان هو التصديق بالقلب والإسلام هو الإنقيلد في العمل كما تذكر
الآيات في القرآن (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) وأحياناً يُقصد بالمؤمن
المسلم. أما ما ورد في آيات سورة الإنسان فهي جزء من صفات المتقين التي
جاءت في الزخرف لأن فيها العمل فقط (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً {8}) والإيمان يدخل فيه عموم العمل الصالح .
3. في الزخرف ناداهم الله تعالى مخاطباً إياهم مباشرة
(ادخلوا الجنة) أما في الإنسان فجاء قوله تعالى (وجزاهم بما صبروا) وما
جاء في الزخرف هو أعلى مكانة ولم يكتف بهذا بل إنه تعالى في الزخرف أدخلهم
هم وأزواجهم (أنتم وأزواجكم) وهذا لم يرد في سورة الإنسان وهذا يدل على
زيادة الإكرام في سورة الزخرف.
4. وقال في الزخرف (تُحبرون) وفي الإنسان (نضرة وسرورا)
والحبور أعمّ وهو يشمل السعادة والسرور والبهاء والجمال والنعمة والإكرام
المبالغ فيه وسِعة العيش أما ما في سورة الإنسان فهو جزء مما ذُكر في سورة
الزخرف. ففي الزخرف إذن شمل ما جاء في سورة الإنسان وزيادة.
5. وقال
تعالى أيضاً في سورة الزخرف (وفيها ما تشتهيه الأنفس) ولم يذكر ذلك في
سورة الإنسان ثم قال (فيها خالدون) ولم ترد في سورة الإنسان وكلها تدل على
الزيادات في النعيم.
6. ثم
ذكر في سورة الزخرف (فيها فاكهة كثيرة) ولم يذكرها في سورة الإنسان لذا
ناسب أن يأتي بصحاف من ذهب في الأولى وقوارير من فضة في الثانية .
7. والأمر
الآخر أنه في سورة الزخرف لم يذكر الفضة أبداً وجو السورة شاع فيها ذكر
الذهب والتنعّم والزخرف ففيها جاء قوله تعالى (وَلَوْلَا أَن يَكُونَ
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ
{33}) فإذا كان هذا للذين كفروا بالرحمن في الدنيا فكيف يكون جزاء المتقين
في الآخرة أقل مما كان للكافر في الدنيا (سقف من فضة وعليها معارج) ؟ وسقف
الفضة والمعارج هي أكثر من قوارير من فضة فكأنها تدل على أن الجنة جزاؤها
أقل من الدنيا فلا يسمح جو السورة في الزخرف باستخدام قوارير من فضة فيها
لأنه لا يناسب أن يعطي الله تعالى الكافر في الدنيا أكثر مما يعطي المتقين
في الجنة. إذن ينبغي أن يكون للمتقين في الآخرة جزاء أعظم لذا جاء بصحاف
الذهب جزاء المتقين في سورة الزخرف.
8. وفي سورة الزخرف ذكر تعالى أيضاً أن فرعون استكبر في نفسه وثم استخفّ بموسى u كما في قوله تعالى على لسان فرعون مخاطباً قومه (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ
أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ {53}) فكيف يناسب ذكر
الفضة في السورة إذا كان فرعون المكتبر العالي في الأرض يستعمل الذهب؟
فالأفضل أن جاء تعالى بالفضة والذهب كل في مكانها الذي ناسب جو السورة ووضع
كل تعبير في مكانه يناسب سياق الآيات في كلتا السورتين.
هل البَدَل يفيد التوكيد؟
للبدل عدة أغراض منها:
v أن يكون للإيضاح والتبيين v قد يكون للمدح أو الذمّ v قد يكون للتخصيص كما في قوله تعالى (وَيُطَافُ
عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15)
قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) الانسان).
v التفصيل v قد يكون للتفخيم v قد يكون للإحاطة والشمول v وقد يكون للتوكيد أيضاً.
وللبدل أنواع لا مجال لذكرها في هذا المقام منها الاشتمال وبعض من كُلّ وغيره ولكل نوع من أنواع البدل دلالة وسياق.
آية (17)-(18):
(وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18))
قبل هذه الآية قال تعالى (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15))
فلمّا ذكر تعالى أنه يُطاف عليهم بالآنية والأكواب ناسب أن يقول يُسقون
وليس يشربون أما في الآية الأولى فلم يذكر الآنية أو الطائفين لذا جاء قوله
تعالى (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5))
وذكر الطائفين فيما بعد. ولفظ السلسبيل يوحي بالسلاسة وسهولة المسار هذا
ما يقابل طعام الكفار الذي قال فيه تعالى (وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ
وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) المزّمل) والذي يظهر أن الشراب المذكور في قوله
تعالى (ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلا)
أعلى من الذي ورد في الآية السابقة ومن تسلسل الآيات فإن الشراب يُحمل
إليهم ويُسقونه ثم أنه تعالى وصف آنية الشراب الذي يطاف عليهم بها (من فضة) ووصف الطائفين (لؤلؤاً منثورا) وهذه الأمور لم تُذكر في الآية الأولى. إذن فقد استوفى عناصر الطزاف كلها: الطائفين (ولدان) والمطوف عليهم (الأبرار) والمطوف به (الشراب والآنية) ولم يبق شيء لم يُذكر منها.
آية (19)-(20):
(وَيَطُوفُ
عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ
لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا
وَمُلْكًا كَبِيرًا (20))
ونلاحظ
أنه تعالى قال بعدها هذه الآية وولدان جمع ولد وهم صغار السّن. فبعد وصف
الآنية من الفضة ووصف السقاة وصفهم باللؤلؤ المنثور لأنهم سراع في الخدمة
ومنثورين في كل مكان في حين لما أخبرنا تعالى عن الحور العين (وَحُورٌ
عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) الواقعة) وصفهم
بأنهم لؤلؤ مكنون أي في أماكنهم مستورين مُصانين غير منثورين في كل مكان.
وفي سورة الطور وصف تعالى الغلمان باللؤلؤ المكنون (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ
غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)) فما السبب في ذلك؟
أولاً الوصف باللؤلؤ المكنون له جانبان: جانب الصون والحفظ باعتباره محفوظ
في الصدف، وجانب آخر جانب الصفاء لأن اللؤلؤ أصفى وأنقى وأبيض ما يكون وهو
في الصدف فإذا خرج من الصدف تغير لونه وقد يصبح أسود اللون خارج الصدف.
فعندما يُقال مكنون يكون المقصود هذان الجانبان. لكن يبقى السؤال لماذا جاء في سورة الطور لؤلؤ مكنون للغلمان؟ الفرق بين الآيتين أنه في آية سورة الإنسان قال تعالى (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19))
لم يذكر (لهم) وإنما ذكر الولدان الذين يأتون بالأشياء كما يأمر الله
تعالى أما في آية سورة الطور (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ
كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)) ذكر (لهم) بمعنى خاصّين بهم وليسوا
عامّين كالذين ورد ذكرهم في آية سورة الإنسان، فأصبحوا مكنونين لأنهم
أصبحوا في الأسرة والعائلة متخصصين في خدمتها. أي عائلة؟ إذا نظرنا إلى
الآيات التي سبقت الآية المذكورة في الطور نجد قوله تعالى (وَالَّذِينَ
آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ
امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)) فالكلام عن الأسرة وهذه الأسرة أصبح
لها خصائص كذلك قوله تعالى (ويطوف عليهم غلمان لهم) أي خاص بهم كأنهم لؤلؤ
مكنون وسياق الآيات في سورة الطور فيه خصوصية شديدة للمؤمنين.
وقال تعالى (إذا رأيتهم)
وإذا كما نعلم في اللغة تدل على التحقيق والتيقّن وهي ليست من باب
الإفتراض ولهذا لم يأت بـ (إن) أو (لو) لأن إذا كما قلنا تستخدم لتيقّن
الحدث أو للدلالة على الحدث الكثير الوقوع ولهذا جاءت كل الآيات التي تتحدث
عن أحداث يوم القيامة باستخدام (إذا) لأنها محققة الحصول . أما (إن) فهي
تستخدم للأمر الإفتراضي كما في قوله تعالى (فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في
الأرض) (وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً) و (إن كان للرحمن ولد) ليس
موجوداُ أصلاً وإنما هو افتراض وبعيد الحصول. أما (لو) فتستخدم للتمني ولما
هو أبعد (لو أنفقت ما في الأرض جميعا) وتأني في الأشياء المستحيلة وما هو
أبعد من (إن) أصلاً.
وقوله تعالى (إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثورا) تدل على تحقق الرؤية. وكذلك قوله (وإذا رأيت ثم رأيت)
بمعنى إذا رأيت حيث وقفت هناك رؤية. ورأيت هنا وإن كان فعلاً متعدياً لكنه
ليس بالضرورة ذكر المفعولين للفعل المتعدي وإنما يؤتى بالذي يناسب قصد
المتكلم فأحياناً يستعمل الفعل امتعدي استعمال اللازم أو يتعدى الفعل
بمفعول به واحد وقد لا يؤتى بالمفعولين والأمثلة في القرآن كثيرة منها قوله
تعالى (فأما من أعطى واتقى) لم يذكر لمن أعطى وما أعطى، أو يأتي بمفول به
واحد كما في قوله تعالى (حتى يُعطوا الجزية عن يد) لم يذكر لمن يعطوها ،
وقوله (ولسوف يعطيك ربك فترضى) لم يذكر ماذا يعطيه، وقد يُذكر المفعولين
كما في قوله تعالى (إنا أعطيناك الكوثر). وهذ الإطلاق كم في قوله (لم تعبد
ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) وذكر المفعولين أو أحدهما أو عدم
ذكرهما يكون بحسب ما يريد الكتكلم.
وقوله تعالى (وإذا رأيت)
بمعنى مطلق الرؤية ليس هناك شيء محدد أو مكان محدد أينما وقعت الرؤية وهذا
من دلالة القدرة والنعيم الذي في الجنة لعباد الله المؤمنين.
وقوله تعالى (إذا رأيتهم حسبتهم)
قد يتساءل البعض أن كلمة حسبتهم بمعنى ظنّ وأن هناك تشابه في المعنى أو
يحتملان دلالة قريبة كما في كلمتي النظر والرؤية. فنقول أن النظر قد لا
يكون معه رؤية بمعنى تنظر إلى المكان سواء رأيته أم لم تره. والرؤية تفيد
تحقق المرئي (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) لذا استخدم تعالى الفعل رأى هنا في الآية لتفيد تحقيق الرؤية.
*ما الفرق بين ثُم وثمّ؟
ثُم حرف عطف وثمّ إسم ظرف بمعنى هناك (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) الإنسان) لا تدخل حرف الجر على ثُمّ. ثُم حرف عطف لا يجوز إدخال حرف جر عليه.
(عَالِيَهُمْ
ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ
وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21))
يقول
المفسرون أن عاليهم تعني فوقهم لكنها في الحقيقة لا تعني فوقهم لأن
الفوقية لا تقتضي الملامسة فقد يكون الشيء ملامساً وقد لا يكون إذا كان
فوقهم كما في قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) الملك) وكذلك قوله (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ
الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا
وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ
مِيثَاقًا غَلِيظًا (154 النساء)) وقوله تعالى (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى
السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا
لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) ق) فوقهم هنا تُعرف بالظرف المُبهم الذي ليس له
حدود مثل كلمة يمين لا حدود لها كل ما على يميني يمين. وعليه فإن كلمة
عاليهم تفيد الملامسة وتعني يلبسونها.
وقوله تعالى (وحُلّوا فيها أساور من فضة) هي مقابل ما ذكره للكافرين (سلاسل وأغلالاً وسعيرا)
وهنا نسأل لماذا ذكر تعالى أساور من فضة هنا في سورة الإنسان بينما ذكر في
مواضع أخرى في القرآن أساور من ذهب (أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ
وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ
مُرْتَفَقًا (31) الكهف) ومرة أساور من ذهب ولؤلؤ (جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا
وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) فاطر) قسم من المفسرين قال أنها تدل
على المعاقبة أو الجمع أي مرة يلبسون ذهب ومرة فضة ومرة يجمعون بينها.
فلماذا جاءت ذكر اساور فضة في سورة الإنسان بينما جاءت من ذهب ولؤلؤا في سورة فاطر؟
يجب أن يكون هناك سبب لإختيار كل منها في السورة المناسبة وإذا نظرنا في
سياق الآيات في سورة فاطر من قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ
كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ
شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ
الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ
لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ
هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا
يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ
فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا
الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ
الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا
يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35))
ففي
سورة فاطر قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ
وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا
وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)) وفي سورة الإنسان
قال (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ
يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً {7} وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى
حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً {8}) والأكيد أن الإنفاق سراً وعلانية هو أعم وأشمل من إطعام الطعام على حبه المسكين واليتيم والأسير.
ثم إن يتلون الكتاب ويقيمون الصلاة هي أرفع وأعلى من الوفاء بالنذر
لأن النذر أصلاً مكروه شرعاً وفي الحديث: "النذر صدقة البخيل" فالأمو التي
ورد ذكرها في فاطر هي أعم وأرفع وأعلى مما ورد في سورة الإنسان فتلاوة
القرآن أوسع من إفامة الصلاة ولهذا قدّم التلاوة على الصلاة والإنفاق لأن
الصلاة لا تصح إلا بتلاوة القرآن والتلاوة تكون في الصلاة وفي غير الصلاة.
ثم إن التلاوة والصلاة جاءت بصيغة المضارع بينما جاء الإنفاق بصيغة الماضي لتكرر التلاوة والصلاة أكثر من الإنفاق. فالوصف في سورة فاطر أعلى مما جاء في سورة الإنسان هذا أمر
والأمر الآخر أنه تعالى في سورة فاطر ذكر (يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله) بينما قال في سورة الإنسان (إن هذا كان لكم جزاء) ففي سورة فاطر توفية وزيادة وهما أعلى من الجزاء لذا ذكر الؤلؤ وهو الزيادة ، وكذلك في فاطر قال تعالى (إنه غفور شكور) وفي الإنسان (وكان سعيكم مشكورا) فزاد المفغرة على الشكر في سورة فاطر.
ثم ذكر في سورة فاطر (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا) باسناد الفعلين إلى نفسه تعالى وهذا في مقام التكريم ثم ذكر الإصطفاء بالذات وهو من باب التكريم أيضاً. اصطفاهم هذا تكريم والتكريم الآخر هو الإسناد في قوله (أورثناهم).
قسّم تعالى المصطفين إلى قسمين (مقتصد) و(سابق بالخيرات) ذكر السابقين وهم أعلى المكلفين فلا يناسب معهم أن يذكر الأساور من فضة
لأنها قد تدل على أن الفضة للسابقين مه أنه يجب أن يتميزو